إنَّ العصرَ الراهن يُواجه العديد من وسائل الإعلام والفضاء السيبرانيّ المجازيّ بتنوُّعه وقدراته المختلفة، وقد شاع التواصل في القرية العالميّة اليوم وتبادل الأفكار، بجانب تقديم الثقافات والدعايات الزائفة والمتحيّزة بشأن الأحزاب والجماعات والأفراد، ولا سيّما «الدين». وكما كانت الثقافة والنصوص الدينيّة الأصيلة والمعتقدات الإلهيّة معرَّضة دائمًا للطمس والتضليل، كذلك أصبحت هي في الفضاء الإلكترونيّ معرَّضَة للتحريف والدعاية المناهضة للدين. وفي هذا السياق تقوم المجموعات المتصوّفة الناشئة، وظاهرة التکفير المتمثّلة بداعش، والعديد من الشبكات والجماعات شبه الدينيّة بعرض الدِّين علی العالم، وخاصّة مجتمع الشباب، من خلال التمسك بالقشور والظواهر الدينيّة وتأويلها، وفي هذا الصدد فإنَّ الهجمات والتحريفات التي يوجه هؤلاء نحو الدين الإسلاميّ جدير بالتأمل والاعتبار. ففي مثل هذه الحالة يجب أن يكون الفضاء الإلكترونيّ قادرًا على إظهار الوجه الحقيقيّ للدين المبين من خلال إطلاق الشبكات والجماعات والعلاقات الصحيحة لتعزيز الثقافة الإسلاميّة وتقديم التفاسير والمصادر القرآنيّة الصحيحة من جهة، ومحاربة ضدّ الدعاية المعادية للدين من جهة أخری. واليوم يقدّم الفضاء السيبرانيّ المجازيّ فرصًا وتهديدات للبشريّة، ومع أنَّ تهديداتها قد أثارت قلقًا في نفوس المسلمين، إلّا أنّه لا يزال هناك الكثير من الفرص في هذا الفضاء ويمكن الاستفادة منها، كما أكّد القائد الأعلی للثورة الإسلامية آية الله العظمی الخامنئي (دام ظله الشريف) على الاستفادة من الفرص المتاحة في هذه الساحة ضمن تصريحاته قائلًا: «إنَّ المساحة الافتراضيّة اليوم أكبر بأضعاف من المساحة الحقيقيّة لحياتنا، بل هناك من يتنفّس في الفضاء الإلكترونيّ على الإطلاق، وتقضي فيه حياته کلّها، کما يتعامل الشباب أيضًا مع هذا الفضاء، من خلال أشياء وأمور مختلفة، فضلًا عن استخدام البرامج العلميّة، والإنترنت، والشبكات الاجتماعية... فقد قام مجموعة من الناس بالعمل، وفكروا ]مليًّا[ وأوجدوا طريقة ما يسمّی بالفضاء الافتراضيّ أو علی قولهم الفضاء «السيبراني»، فهيّا، استخدِموه، لكن استخدِموه بشكل صحيح».[1] وقد أدَّى نشوء وتطور الفضاء السَّيبرانيّ المجازيّ في عصر المعلومات والاتصالات، إلى وضع متطلبات جديدة أمام المؤسسات والهياكل والمنظمات الرئيسة في کلّ المجتمعات، وذلك في مختلف مجالات الحياة البشريّة. وقد فتح الفضاء السَّيبرانيّ المجازيّ صفحةً جديدةً في العلاقات الاجتماعيّة، ورغم أنّه حديث العهد نسبيًّا لكنّه تمكن من الدخول بشكلٍ جيّدٍ في حياة الناس لدرجة أنّ العديد من الناس من مختلف الأعمار والمجموعات الاجتماعيّة يجتمعون معًا حول مائدته ويتواصلون بعضهم مع بعض عبر المسافات البعيدة جغرافيًّا. واليوم تجد الأسرة المسلمة في سلّتها الثقافيّة شبكات فضائيّة، والفضاء السيبرانيّ المجازيّ، ووسائل الإعلام الحديثة، والتي استهدفت كلّ منها بدورها جزءًا من عمليّة التأثير في الأسرة. وقد تخصَّصت بعض الشبكات والمجموعات الفضائيّة والقنوات الافتراضيّة في التركيز على موضوع الأسرة، وأمّا الرسالة المشتركة لبرامج هذه الشبكات، فهي: الترويج للتفكك والتفسخ الأسريّ في مقابل التماسك والتلاحم الأسريّ، وتطبيع الخيانة الزوجيّة، وتطبيع العلاقة الجنسيّة قبل الزواج بين الشباب، وتعزيز ثقافة التعايش بدلًا من الزواج، كما أثارت عواقب تعرّض الجمهور المسلم لبرامج شبكات الأقمار الصناعية العديد من المخاوف لمجتمع الخبراء. وإنَّ الدين - باعتباره أحد أقدم وأعرق مؤسسات الحياة البشريّة - ليس استثناءً من هذا الوضع، فتجب إعادة النظر فيه وإعادة إنشائه شكلًا وأسلوبًا في التفاعل مع الجمهور المتديّن والمجتمع الديني، وفقًا لظروف العالم المستجدّة. فيمكن الدعوة والترويج للدين والمذهب والمجتمع الديني من خلال استخدام الفضاء الإلكترونيّ، وبالتالي تمهيد طرق للتوعية الدينيّة وتمييز الغثّ من السَّمين. ومن خلال استخدام إمكانات هذا الفضاء، يصبح الخطابات أقلّ هِرَميةً وصَلابةً في مواجهة جمهور المخاطبين، مما يساعد أعضاء المجتمع الدينيّ والباحث عن الحقيقة على تقليل مخاوفهم وتحفظاتهم في البحث عن أسئلتهم وشكوكهم وتردداتهم حول الدین، وبالتالي في الحصول على إجابات مقنعة. ومع ذلك، فإنَّ استخدام هذه المزايا وتجنب المخاطر يتطلب تدابير واحتياطات أولية، فمن المبادئ المهمّة هي توفير التدريبات اللازمة من قبل المؤسسات الداعِمة والمساعِدة مثل الأسرة والمراكز الإعلاميّة والتعليميّة لتحسين المهارات الإعلاميّة والوعي بوسائل الإعلام لدى الجماهير، ولا سيما الشباب والمراهقين، وتقليل الأخطاء في مواجهة محتوى القنوات والمخاطر في الاختیار العشوائيّ للشبكات الاجتماعيّة. ومن العوامل المهمّة التي تزيد من التوجه نحو هذا الفضاء هو تقييم الحاجات ودراسة جمهور القرّاء، بحيث تزيد من نسبة الاهتمام بأذواق الجمهور وخاصة الشباب في إنتاج المحتوى ومواد الشبكات الافتراضيّة والصفحات الإلكترونيّة، کما ترفع من مدی تأثيرها وفقًا لأهداف صُنّاع القرار الديني. ومما له التأثير في جذب المزيد من الجماهير ونشر التعاليم الدينية، اتّخاذ نهجٍ إبداعيٍّ مع البصيرة والرؤية المستقبليّة وتقديم محتوى محدَّث وجذاب، بعيدًا عن الأساليب العدوانيّة والتحکميّة. هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ الإجراءات القسريّة والهجوميّة تُعرقِلُ الفعّاليّةَ الإيجابيّة للفضاء السيبرانيّ في مجال الدين، وتَحدُّ من إمكانياته المفيدة. وفي الختام، فإنّه من الضروريّ التحرُّك في الفضاء الإلكترونيّ والحضور الفاعل والنشط فيه واستخدامه للأغراض الدينيّة، وهي خطوةٌ ذكيةٌ ومصممةٌ؛ وفقًا لضروريات الدين والمجتمع الديني والجماهير من ذوي الاهتمامات والميول المختلفة التي مستعدة ]بالقوة[ لإظهار ردود فعل سلبيّة وغير عقلانيّة ومنطقيّة، وأمّا تعدُّد التعاليم والدعوات الدينيّة، بشرط مراعاة ما سبق، فيؤدّي إلى تعزيز الاستقرار لصالح الدين في المواجهة بين الدين والعالم الافتراضيّ. وقد تناولنا في هذا العدد من مجلة «المصطفى» باللغة العربيّة، جوانب مختلفة من التفاعل بين الدين والفضاء السيبرانيّ والمجازيّ، عسى أن نتمكّن من استكمال هذا المبحث في عدد آخر من المجلة في المستقبل.
[1]. المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، لقاء مع المعلمين والمربين، 2/5/2016.